Connect with us

مقالات وتقارير

قَبَسٌ مِنْ نُورِ القُران.. كلمة يتقون/ تتقون في القرآن الكريم الجزء الثاني

Published

on

دعاء نشر المصحف ليلة القدر

ثانيا: العبودية لله والعمل بمنهجه والسير على صراطه المستقيم: البقرة 21، 63، الأنعام 153، الأعراف 171، الزمر 28

ومع الآية الأولى من هذه المجموعة ومع الآية 21 من سورة البقرة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

بدأت سورة البقرة بعرض أصناف الناس أمام الإسلام في 19 آية بعد الآية الأولى (ألم)، حيث وصفت المتقين المؤمنين بالله في 4 آيات، ثم الكافرين في آيتين وأخيرا المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر في 13 آية لخفاء حالهم، والحاجة لضرب العديد من الأمثلة لكشفهم وفضحهم أمام النبي والمسلمين. ثم جاءت هذه الآية بهذا النداء العام لكل الناس لاستئناسهم والاقتراب منهم رحمة من الله بهم، ولكن وكأن الله تبارك وتعالى يقول لنا مسبقا أن استجابة الناس لدعوة الإسلام ستكون هكذا، ورغم ذلك فما عليك يا محمد ويا أتباع محمد إلا أن تستمروا في القيام بأعباء الرسالة والدعوة والإنذار والإعذار إلى الله، فهذا هو دوركم في البلاغ عنه عز وجل، ثم بعد ذلك: من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر أو فلينافق!!

تبدأ الآية بالنداء بحرف النداء الغالب الاستعمال في اللغة العربية (يَا) سواء للقريب أو للبعيد، (أَيُّهَا) والتي تستخدم لغة للفصل بين حرف النداء والاسم المعرف بأل المنادى، أما المنادَى (النَّاسُ) فهم هنا عموم الناس مؤمنِهم وكافرهم، أهلِ الكتاب وغيرِهم من الأمم التي كانت حاضرة وقت نزول الآية أو من سيأتي بعدُ إلى يوم القيامة، وهذا هو القول الراجح بين المفسرين، وهذه الصيغة من النداء (النَّاس) هي من سمات القرآن المكي في الغالب ولم يأت في القرآن المدني إلا في سورتي البقرة والنساء، أما النداء للذين آمنوا فهو من سمات القرآن المدني فقط، أما موضوع النداء فهو (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)، إنه الأمر الجامع لكل الرسالات، عبادة الله، إنه الغاية من خلق الجن والإنس (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) -الذاريات 56- والعبادة جاءت على معاني عديدة منها الطاعة والخضوع والتذلل والتنسك والتعبد، وهذه العبادة هي من مقتضيات الربوبية ولذا فالأمر في هذه الآية أن يتوجه الناس لربهم بها، وقوله تعالى (رَبَّكُمُ) يعني رب واحد لكل الناس وهذا لا يكون إلا لله الواحد القهار، فلكل قوم من المشركين ربٌّه أو أربابه على اختلاف الأقوام والأماكن والزمان، ولكن المقصود هو الرب الواحد لكل الزمان ولكل المكان ولكل الأقوام، والسبب بسيط ومباشر، فهو وحده وبشهادة البشر (كما سبق الحديث في الآيات السابقة) أنه خالق البشر والأكوان وما فيها، ولهذا قال تعالى (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) ولم يجادل في هذا أحد من الناس منذ آدم أبو البشر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والخلق هو الإيجاد من العدم على غير مثال سابق، مع تمام الصنعة وكمال الخلْق وبهاء المنظر، فاستحق التفرد بالألوهية والربوبية والعبودية، ولأن الخطاب لكل الناس، فالمؤمن يزداد إيمانا وعبادة وطاعة وخضوعا والكافر مراده الإيمان بالله خالقا وإلها وربًّا، والمنافق الثبات على الإيمان وترك ما هو عليه في باطنه من الكفر والجحود والعناد، والتسليم لله رب العالمين، أما الغاية الأخيرة من هذه العبادة لله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وقد أفاض الفسرون في كلمة (لَعَلَّ) على عدة أوجه نذكر منها ما جاء في تفسير القرطبي:

أولها أنها تفيد الترجي من جانب الناس، أي أن العبادة ستصل بهم في نهاية المطاف إلى حقيقة التقوى بكل معانيها التي سبق الحديث عنها أعلاه.

وثانيها أنها تأتي بمعنى كي أي أنكم تعبدون الله كي تحققوا التقوى في أنفسكم، فهي ستكون السبيل للخوف من الله وعذابه وللوقاية من النار يوم القيامة،

وثالثها أنها تأتي بمعنى التعرض للشيء، وكأنه يقول اعبدوا ربكم متعرضين لأن تتقوا.

وفي كل المعاني السابقة فالأمر الرباني هو أن يعود الناس جميعا لربهم موحدين خاضعين طائعين من أجل أن تسمو أنفسهم وتزكو قلوبهم، فتخشع الجوارح متذللة لخالقها، وتتحقق التقوى، ويتحقق الصلاح والفلاح في الدنيا بمزيد من الرقابة الذاتية الخالصة لله، وفي الآخرة بالوقاية من النار والبعد عنها والفوز بالجنة خالدين فيها أبدا.

 

وإلى الآية 63 من سورة البقرة: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

يتوجه المولى عز وجل بالخطاب إلى بنى إسرائيل مذكرا لهم بما كان من أحوالهم التي أطلع الله عليها نبيه الكريم (ص) في القرآن الكريم، والأمر يتعلق بمرحلة من مراحل مسيرة نبي الله موسى معهم بعد خروجهم من مصر، فهم كانوا يؤمنون بالله على العموم، ورأوا الآيات التي أيد الله بها موسى في المواجهة بينه وبين فرعون وقومه، تسع آيات على مدار فترة من الزمن، حتى حان الوقت الذي قضى فيه الله بإغراق فرعون وجنوده، أمام أعينهم بآية جديدة تضاف إلى كل ما سبق، ورغم ذلك فما كاد يغادرهم موسى للقاء ربه حتى عبدوا العجل، فلما عاد إليهم بالكتاب الذي أنزله الله عليه في الألواح، وطلب إليهم العمل بما فيها رفضوا وأصروا أنهم لن يفعلوا حتى يروا الله جهرة، فصُعقوا ثم أحياهم الله، ثم أصروا مرة أخرى، فجاء هذا المشهد المرعب، فقد أخذ الله عز وجل الميثاق على بني إسرائيل، وقد ذكر أبو حيان التوحيدي في تفسيرالبحر المحيط أقوالا في المقصود بالميثاق منها: ما أودعه الله في  العقول من الدلائل على وجوده وقدرته وحكمته، وعلى صدق أنبيائه ورسله، أو هو العهد المأخوذ على ذرية آدم أن الله ربهم، أو الإيمان بمحمد (ص)، أو العهد على العمل بالتوراة وما جاء فيها. ولكنهم عصوا موسى ورفضوا، (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) ورفع الله الطور فوقهم للتأكيد على ضرورة التمسك بالعهد بكل معانيه السابقة، هؤلاء هم بنو إسرائيل مع أعظم أنبيائهم، ورغم كل الآيات المادية والمعجزات التي عاينوها وعايشوها إلا إنهم يعودون للانحراف النفسي والفكري حتى تكون القوة القاهرة هي التي تفعل فعلها فيهم، فيعودوا إلى رشدهم إلى حين! والطور هو الجبل في اللغة الكنعانية، أو هو الجبل الذي فيه نبات، أوهو الجبل الذي كلم الله عنده موسى عليه السلام فأصبح اسم علم عليه، ولم يرد حديث صحيح في الكيفية التي حدث فيها الرفع، وقد جاء في الآية الأخرى كلمة (نَتَقْنا) وهي تعني الزعزة والنقض، ولا خلاف في أن المشهد الذي عاشه بنو إسرائيل كان مخيفا لهم وظنوا أن الجبل واقع بهم فأقروا بالعهد، وأعلنوا عزمهم العمل بما جاءهم من الله وما جاء في الألواح، وأن يعملوا بها بكل جد وعزم واجتهاد، (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ)، والآمر هنا هو الله عز وجل، في ظلال القهر والغلبة والقوة، فكان لا بد من الأخذ بقوة، لا بد من الالتزام والتنفيذ بأقصى درجات الجد، ثم (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) يرشدهم الله جل جلاله على السبيل الموصلة للمواظبة على الالتزام بالمنهج الإلهي، إنه الذكر المستمر الذي لا يفتر، لما آتاهم الله، للكتاب، التلاوة الدائمة المتدبرة، القراءة الواعية بقلوب خاشعة، التعاون على البر والتقوى، والتناهي عن المنكر والعدوان. وهذا الميثاق والعهد، والأخذ بقوة لما أنزله الله عليهم هو من أجل الوصول إلى الرقابة الدائمة لله في كل خلجات جوارحهم وسكناتها، في كل حين من ليل أو نهار، في البيع والشراء، في السلم والحرب، في الحكم والسياسة، في كل شأن من شئون حياتهم ومعاشهم، إنها تربية النفس على السمو والارتفاع، على الصلة الدائمة لنفخة الروح في هذا الجسد الفاني مع خالقها، إنها التقوى (َلَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

 

وإلى الآية 153 من سورة الأنعام: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

تأتي هذه الوصية العاشرة في ختام الوصايا التي سبق الحديث عنها سابقا في البحثين السابقين (كلمة يعقلون: خمس وصايا ، كلمة يتذكرون: أربع وصايا)، أما التعقيب هنا فجاء بكلمة (يتقون)، وقد ناسب كل تعقيب الوصايا التي جاء في ختامها، وهي الوصايا التي جاءت في الكتب السابقة (التوراة والإنجيل) والتي ما زال كل اليهود والنصارى يعلنون أنها مما أنزله الله في كتبهم، فهي من الآيات المحكمات، وهي مما ورد في الأحاديث ان النبي (ص) قال من يبايعني على العمل بهن وله الجنة إن وفى، أو العقاب إن قصر فيهن.

تبدأ الآية بحرف العطف لاستكمال الوصايا مع الآيتين السابقتين، ثم بالحرف المصدري على قراءة الجمهور مع الآراء المتفاوتة بين المفسرين في الإعراب بين الجر بحرف جر مقدر (اللام) أو النصب ولكن المعنى لا يختلف، فالمقصود هنا هو التأكيد على الصراط المستقيم، والذي هو الإسلام ككل، ( وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا)، هو المنهج الرباني الذي أنزله الله على رسوله بين دفتي القرآن الكريم، وما صح من الهدي النبوي الشريف بأقواله وأفعاله التي تتوافق تماما مع القرآن، فقد كان خُلقه القرآن كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها، وكلمة الإشارة (هَٰذَا) تشير إلى أن المنهج كان قريبا مشهودا من الناس، يتلوه الرسول (ص) عليهم مرة بعد مرة، يعرفون استقامة ما جاء فيه من الخير ونهيه عن كل شر، فهو الصراط المستقيم، لا عوج فيه ولا انحراف، هو الصراط بمعنى الطريق المعبَّد، اليسير على من سار فيه باختياره وباليقين على الله، بالإيمان بالله ربا و بمحمد نبيا ورسولا، هو الصراط المستقيم، والذي هو أقصر الطرق للوصول بسلام إلى دار السلام، إلى الجنة والنجاة من النار، والضمير في كلمة (صِرَاطِي) يعود على الله عند بعض المفسرين وعلى النبي عند البعض الآخر، ولكنه واحد كما ذكرت أعلاه، (فَاتَّبِعُوهُ ۖ ) هذا هو ما يجب على كل الناس بعد هذا الوصف الرباني للطريق بأنه المستقيم، إنه الاتباع، والسير على خطى المنهج بكل ما فيه من توحيد الألوهية والربوبية والإيمان بالرسل والكتب والملائكة واليوم الآخر، والعمل بكل ما أمر به الله ورسوله والانتهاء عما نهى عنه الله ورسوله، الاتباع مع الفهم والعقل والاتعاظ والتقوى، والروايات عديدة في أن الرسول رسم خطا واحدا وخطوطا عديدة حوله، مؤكدا أن الخط الواحد هو الصراط المستقيم، و الخطوط الأخرى هي سبل الشيطان، سواء من الجن أو الإنس، فأي درجة من الانحراف عن الصراط المستقيم مهما كانت صغيرة في بدايتها ستكون كبيرة بعد حين، (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ )، فأي ميل عن الحق سيؤدي إلى إطالة المسافة أولا (لأنه لن يكون أقصر الطرق) والأهم من ذلك أنه لن يصل إلى الغاية المنشودة وهي النجاة من النار والفوز بالجنة، فالبداية الأولى للطريق تبدأ منذ لحظة الولادة، ثم تأتي البداية الثانية للمحاسبة على الأفعال والأقوال عند البلوغ، عند لحظة التكليف والنهاية عند الموت، وكل شيء يُحصى ويُسجل على الإنسان (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) -ق 18- ويوم القيامة يرى كل ما فعله في الدنيا مكتوبا وموثقا في كتابه (وَكُلَّ إِنسَـٰنٍ أَلۡزَمۡنَـٰهُ طَـٰۤىِٕرَهُۥ فِی عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ كِتَـٰبࣰا یَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا) -الإسراء 13- وقد ظهرت هذه الجماعات والفرق منذ العقود الأولى في التاريخ الإسلامي بسبب التشدد والتنطع والمراء والجدال والأهواء، والمال والسلطان وتكالب الأعداء ومحاولاتهم إضعاف هذه الأمة التي ضربت قوى الكفر والبغي، وأقامت صرح الحضارة ردحا من الزمن، ولكن سنن التاريخ التي وضعها رب العزة لا تحابي أحدا، ولا تتبدل، وما زلنا إلى اليوم نرى الجديد من هذه السبل الشيطانية التي تنتشر بين الناس، ويتبعها المسلمون تقليدا لغيرهم سواء من اليهود والنصارى أو غيرهم، إنها الهزيمة النفسية التي ضربت أطنابها بين الكثير من أبناء المسلمين، والخلاص من هذا لا يكون إلا بالتمسك بالصراط المستقيم مرة أخرى كما فعل محمد (ص) وأصحابه (ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، هي الوصية الجامعة من الله، هي الرحمة التي وسعت كل شيء، هي الفضل من الله على عباده حتى تتحق لهم التقوى، حتى يتحقق لهم الصلاح والفلاح في الدنيا، حتى يكونوا مؤهلين لتحقيق الخلافة في الأرض وإعمارها، وإقامة صرح الحضارة الإنسانية التي تعم بخيرها البشر والشجر والحجر، هو الانسجام التام بين الإنسان والكون من حوله مسبحين لله (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) -النور 41- ، متبعين صراطه المستقيم، ناجين من النار ومنعَّمين في الجنان بإذن الله العزيز الرحيم.

وقد أورد رشيد رضا في المنار ما أخرجه أبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن على بن أبي طالب رضي الله عنه: لمَّا أمر الله نبيه (ص) أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج إلى مِنى وأنا معه وأبو بكر، وكان أبو بكر رجلا نسابة فوقف على منازلهم ومضاربهم بمنى فسلم عليهم وردوا السلام وكان في القوم مفروق بن عمرو وهانئ بن قبيصة والمثنى بن حارثة والنعمان بن شريك، وكان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروق وكان مفروق قد غلب عليهم بيانا ولسانا، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إلام تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس وقام أبو بكر يظله بثوبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله وأن تؤووني وتنصروني وتمنعوني حتى أؤدي عن الله الذي أمرني به، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغني الحميد” قال له: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا -إلى قوله- تتقون) فقال له مفروق: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) الآية، فقال له مفروق: دعوت والله يا قرشي إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك، وقال هانئ بن أبي قبيصة: قد سمعت مقالتك، واستحسنت قولك يا أخا قريش، ويعجبني ما تكلمت به، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن لم تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم – يعنى أرض فارس وأنهار كسرى – ويفرشكم بناتهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟ فقال له النعمان بن شريك: اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم قابضا على يد أبي بكر.

هذا هو تأثير الدعوة فيمن يبحث عن الحقيقة، وهذا هو الصراط المستقيم.

 

وإلى الآية 171 من سورة الأعراف: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

تأتي هذه الآية في سياق آخر من قصة بني إسرائيل مع نبي الله موسى عليه السلام لتبرز الانحرافات المتواصلة والمتأصلة فيهم، وتخليهم المرة بعد المرة عن الاتباع والتقيد بالشريعة الإلهية المنزلة على نبيهم موسى عليه السلام، رغم أخذ الميثاق عليهم من الله أن يثبتوا على الإيمان والعمل بالكتاب.

في الآية 63 من سورة البقرة -والتي تم تفصيلها أعلاه- بدأ الحديث عن أخذ العهد عليهم، مع الأمر الواضح والصريح بالعمل بمقتضى الشريعة الربانية بأقصى درجات الالتزام والانضباط وذلك عندما رفع الله عز وجل الجبل فوقهم، والملاحظ أنه في الآيات السابقة لهذه الآية في سورة البقرة كان الحديث يدور عن أحوالهم من التمرد على موسى عليه السلام وصعقهم وبعثهم، ثم طلبهم السقاية واستبدال الطعام الذي أنعم الله به عليهم (المن والسلوى)، ولم يرد في هذه الآيات ذكر للميثاق، فجاءت بداية الآية بالتأكيد على أخذ الميثاق عليهم، أما في الآية 171 من سورة الأعراف وهي مدار الحديث فإن الآيات السابقة لها قد ذكرت الميثاق في الآية 169 (..أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ..) ولكن كان المشهد هذه المرة أشد رعبا وقوة من الآية السابقة من سورة البقرة، فقد جاء التعبير بقوله تعالى (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ) والذي يعني الزعزعة والنقض للجبل من مكانه، وكما يقول الشيخ الشعراوي أن الأمر مر بثلاث مراحل: النتق، الرفع، ثم الجعل كالظلة. وقد سبق القول في بقية الآية بما يغني عن الإعادة هنا.

 

وإلى الآية 28 من سورة الزمر: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)

تأتي هذه الآية في سياق الآية السابقة لها (27) والتي تحدثت عن ضرب الأمثال في القرآن الكريم (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) والتي تم الحديث عنها في المبحث الخاص (بكلمة يتذكرون)، وتأتي كلمة (قُرْآنًا) حالا من (هَٰذَا الْقُرْآنِ)، وهو عربي (عَرَبِيًّا) فهذا القرآن حاله أنه قرآن عربي واضح بين، بلغة هي أبلغ اللغات، وهو بلغة قريش أوسط ألسنة العرب في ذلك الزمان الذي تميز بالفصاحة والاهتمام بالأدب والشعر الذي بلغوا فيه شأنا كبيرا، وكتبوا مفاخر قصائدهم وعلقوها في الكعبة وسموها: المعلقات، ورغم ذلك جاء هذا القرآن معجزا لهم متحديا أن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا!، وأقروا بعدم قدرتهم على ذلك، وأقروا أنه ليس من عند بشر، مهما كان هذا البشر!، وهو إلى ذلك (َغيْرَ ذِي عِوَجٍ)، لا اختلال ولا اختلاف فيه بل هو مستقيم في كل ما ورد فيه من المعاني والمباني، ونفي العِوَج أبلغ في تأكيد كماله عن تأكيد الاستقامة وذلك منعا للافتراء عليه أو الطعن فيه، وهنا التأكيد مرة أخرى بعد الآية 153 من سورة الأنعام أعلاه على استقامة المنهج القرآني في كل أجزائه وأركانه، في كل تشريعاته وتوجيهاته ووصاياه التعبدية والإيمانية والسلوكية والأخلاقية، وهذا التكامل والانسجام هو الذي يحقق للإنسان أرقى درجات الكمال المبتغاة، مقتدين في ذلك بسيد الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم، حيث جعله الله الأسوة الحسنة للناس جميعا، كيف لا وقد مدحه ربه بكونه على أعلى درجات الأخلاق (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍۢ) -القلم 4- .

وبالتأمل في آيات هذه المجموعة نجد أنها ابتدأت بالخطاب الرباني للناس جميعا بالتوجه إلى الله بالعبادة لتحقيق التقوى، ثم تلا ذلك الحديث عن قصة موسى عليه السلام مع قومه وأخذ العهد عليهم باتباع المنهج الرباني الذي جاءهم في الكتاب (المخطوط في الألواح)، ثم جاء الحديث عن النبي محمد (ص) دون أي إشارة لعهد أو ميثاق، بل الأمر باتباع الصراط المستقيم، ثم يعود الحديث إلى موسى عليه السلام مع قومه مع الأمر باتباع ما جاءهم به موسى (وفي المرتين كان التهديد المرعب بإسقاط الجبل عليهم إن لم يفعلوا) وأخيرا يعود الحديث مرة أخرى إلى رسولنا الكريم (ص) والتوجيه الضمني لاتباع القرآن المستقيم (غير ذي عوج)، أي جمال وانسجام هذا!! أي كمال هذا! فحيثما تناولت القرآن تجده معجزا، هذا التتابع السلس، وهذه المقارنة الملفتة للنظر بين قومي النبيين الكريمين أولي العزم من الرسل، قومٍ لا يعملون بكتاب الله إلا بالتهديد المرعب المفزع، ثم ينكصون مرة بعد مرة، وقوم يأخذون بكتاب الله بمجرد الإيمان به وتصديق رسوله، وكأن الله تبارك وتعالى يقول لنا انتبهوا واحذروا هؤلاء الذين عاندوا واستكبروا عن آياتي، هم العدو بل هم أشد الناس عداء لأمة محمد (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ..) -المائدة 82-.

 

ثالثا: وحدة الدعوة والرسالات: الأعراف 65، المؤمنون 23، 32، الشعراء 11، 106، 124، 142، 161، 177، الصافات 124

كما سبق الحديث في الآية 63 من سورة البقرة أعلاه من خطاب الله لكل الناس أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، من أجل تحقيق التقوى في حياتهم، فقد أرسل الله الرسل إلى أقوامهم بنفس الدعوة وبنفس الرسالة: توحيد الربوبية والألوهية والعبودية لله وحده. ومن المناسب هنا أن نذكر ما قاله سيد قطب في الظلال عند تفسير هذه الآيات من سورة الأعراف والتي بدأت مع قصة نوح مع قومه ثم بقية الرسل: ” والمنهج القرآني يكثرمن الربط بين عبودية هذا الكون لله، ودعوة البشر إلى الاتساق مع الكون الذي يعيشون فيه، والإسلام لله الذي أسلم له الكون كله، والذي يتحرك مسخرا بأمره، ذلك أن هذا الإيقاع بهذه الحقيقة الكونية كفيل بأن يهز القلب البشري هزا، وأن يستحثه على أن ينخرط في سلك العبادة المستسلمة، فلا يكون هو وحده نشازا في نظام الوجود كله. إن الرسل الكرام لا يدعون البشرية لأمر شاذ، إنما يدعونها إلى الأصل الذي يقوم عليه الوجود كله، وإلى الحقيقة المركوزة في ضمير هذا الوجود، وهي ذاتها الحقيقة المركوزة في فطرة البشر، والتي تهتف بها فطرتهم حين لا تلوي بها الشهوات، ولا يقودها الشيطان بعيدا عن حقيقتها الأصلية”.

 

مع الآية 65 من سورة الأعراف: (وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ)

تبدأ الآية بالعطف على قوله تعالى في قصة نوح التي سبقت قصة هود (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِۦ..) الآية 59 من نفس السورة، أي وأرسلنا إلى قوم عاد أخاهم هودا (وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا)، وعادٌ هم قوم عاد الأولى كما يقول المفسرون، وهم من أحفاد نوح والذين آمنوا معه، وقد عاشوا في اليمن في الأحقاف بين عُمان وحضرموت، وقد بلغوا شأوا عظيما من القوة الجسدية والمادية حتى طغوا في البلاد وما حولها، فأرسل الله لهم رسولا منهم، من أوسطهم حسبا ونسبا، ويذكر كثيرمن المفسرين أن نسبه يعود إلى نوح عليه السلام، ولهذا فقد جاء القرآن بهذا التعبير اللطيف (أخاهم) يعرفونه نسبا وخُلُقا، وكذلك من أجل استمالة قلوبهم لتلقي دعوته التي جاءهم بها من عند الله عز وجل، فماذا قال لهم؟ هو ما قاله نوح عليه السلام لقومه، وهو ما قاله كل رسول لقومه (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ)، ويبدأ خطابه إليهم بمناداتهم: يا قومي تقربا إليهم، فأنا واحد منكم، تعرفونني وأعرفكم، حريص عليكم، أحب لكم الخير، فاسمعوا مني ما أرسلني الله به إليكم: اعبدوا ربكم الذي خلقكم، ومنَّ عليكم بكل الخير الذي تتمتعون به، اعبدوا الله، وهذا لسبب بسيط هو (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ) وينبغي أن يكون كذلك، ليس لكم من إله غير الله، وهو النفي التام لأي نوع من الآلهة المدعاة والتي اتخذها قومه من دون الله، فكلها لا تستحق العبادة، فهي أيضا بهذا القدر من البساطة: لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا، وبالضرورة لا تملك لكم يا قومِ نفعا ولا ضرا، ويأتي في النهاية التعقيب على الآية (ۚأَفَلَا تَتَّقُونَ)، إنه الأسلوب الاستفهامي الاستنكاري لهذا الجهل بقوة الله وعظمته، بجلاله وجبروته، فكل ما أنتم فيه هو منة منه وفضل، ليس بحولكم ولا قوتكم، ألا تخافون الله وتتقوه، ألم تروا ما حل بمن سبقكم من الغرق والهلاك بكفرهم بنبيهم، فأنتم أقرب الناس إليهم، وأنتم من أحفادهم، إن عذاب الله إذا جاء لا يؤخر عنكم، وسنة الله ماضية فيكم كما مضت فيمن قبلكم، فتوبوا إلى الله واعبدوه ولا تشركوا به شيئا.

والملاحظة بين قصتي نوح وهود في الآيات من 59 إلى 72 (نوح 6 آيات وهود 8 آيات) أن نوحا قال لقومه (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) أما هود فقال لهم (ألا تتقون)، وذلك كما يذكر بعض المفسرين أنه لم تكن هناك سابقة عذاب حل بقوم قبل قوم نوح، فكان التهديد عاما، إمَّا على أن المقصود هو عذاب يوم القيامة، أو أنه عذاب سيحل بهم في الدنيا إن بقوا على الكفر، أما قوم هود فقد كان ما حل بقوم نوح حاضرا في أذهانهم ولذا جاء التحذير عاما بقوله ألا تتقون أن يحل بكم ما حل بقوم نوح؟!!. ومع ذلك فقد جاء ذكر التقوى في الآية 63 (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، بينما في قصة هود فقد جاءت الآية 69 (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ… ) دون ذكر التقوى. إنه التكامل بين أجزاء القصة الواحدة في السياق الواحد في السورة الواحدة والتي قد يتم عرضها في سورة أخرى بسياق آخر كما سيأتي الآن في سورة المؤمنون.

 

ومع الآية 23 من سورة المؤمنون: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ أَفَلَا تَتَّقُونَ)

كما سبقت الإشارة إلى قصة نوح عليه السلام والتي وردت في سورة الأعراف ابتداء من الآية 59 والتي تقول: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، وهذه الآية من سورة المؤمنون بدأت بحرف الواو وهو هنا استئنافي لبدء جملة جديدة بعد الحديث عن الأنعام وحمل الناس عليها وعلى الفلك، وبعد ذلك نجد أن نص الآية لا يختلف عنها في سورة الأعراف إلا في التعقيب الأخير ، فكان هنا (أَفَلَا تَتَّقُونَ) وكان في الآية من سورة الأعراف (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

وهذا هو الأسلوب القرآني الفريد المعجز في عرض القصة مرة بعد مرة بصورة مميزة عما سبقها، فيبقى لها الرونق والسحر والجمال، والذي لا يمل سامعه أو قارئه من تكراره، بل يجد فيه كل مرة ما هو مبهر في تناسقه مع سياقه وما سبقه وما تلاه، وهنا فقد كانت الآية 22 والتي سبقت هذه الآية تتحدث عن الفلك وحمل الناس عليها فكان من المناسب ذكر قصة نوح والذي علمه الله تعالى صنعها وإتقانها لتجري في موج كالجبال بينما الأرض تغرق من حوله، والسماء تنزل بماء منهمر والأرض تتفجر عيونا حتى غطى الماء الجبال وليس فقط السهول والوديان، وتكون الدعوة نفسها والتي هي الأساس لكل الرسل، وهي القاعدة التي تستقيم عليها حياة البشر في الدنيا والآخرة، وهي الحقيقة التي أسلمت لها كل المخلوقات: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية والتي تقتضي من الإنسان توحيد العبودية، الطاعة الخالصة لله رب العالمين، الاتباع التام للمنهج الرباني الذي ينزله الله على رسله لإبلاغه للناس ليهتدوا به، فيتحقق لهم الصلاح والسعادة في الدنيا والفلاح والنعيم الدائم في الآخرة إن ساروا عليه واتبعوه، أما إن حادوا عنه وكفروا به وأشركوا بالله آلهة أخرى فسيعانون من الشقاء وفساد المعاش في الدنيا وسيكون الجزاء هو الخسران المبين والعذاب المقيم في الآخرة. ويكون التعقيب الأخير في الآية (َفَلَا تَتَّقُونَ) استنكارا على المشركين والكفار عدم الخوف من الله وعقابه في الدنيا والآخرة، وذلك لأن الله أرسل الرسل وأنزل الكتاب معهم للناس من أجل تحقيق التقوى والسعادة والسكينة والطمأنينة رحمة بهم، فهم عبيده الذين خلقهم ويريد لهم الخير، فلا ينقص من ملكه كفرهم ولا يزيده عبادتهم.

 

وإلى الآية 32 من سورة المؤمنون: (فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ أَفَلَا تَتَّقُونَ)

تأتي هذه الآية معطوفة بالفاء على الآية التي سبقتها 31 (ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنۢ بَعْدِهِمْ قَرْنًا ءَاخَرِينَ)، أي من بعد قوم نوح عليه السلام، ولأن الغرض هنا في سورة المؤمنين هو التركيز على السنن الإلهية في إرسال الرسل، والموضوع الأساس في هذه الرسالات، والإشارة إلى طبيعة التكذيب الذي يواجهه الرسل من أقوامهم ثم عاقبة هذا الإصرار على الكفر والشرك من إهلاك وتدمير وإنجاء الرسل والذين آمنوا معهم، هذا هو المراد من قصص الأنبياء في هذه السورة، والله تبارك وتعالى ذكر نقطة البداية من نوح عليه السلام والنهاية بموسى وعيسى عليهما السلام، وفي هذا من التسلية للنبي (ص) في مواجهته لقومه، وما يلاقيه من العنت والاتهامات والافتراءات، وأن هذا هو ما واجهه الرسل على مدار الرسالات جميعا، فهو ليس بدعا من الرسل، ولكنه الآخِر والخاتم، وربما كذلك لأن رسالته هي للناس جميعا، فكان القصص من كل مكان عاش فيه البشر وجاءته الرسل، بغض النظر عن اللغات والأجناس والأعراق والألوان، فالنبي هو رسول الله للعالمين وإلى يوم الدين، ومضمون الرسالات واحد هو توحيد الألوهية والربوبية ومن ثم العبودية لله وحده لا شريك له، عبودية وفقا للمنهج الذي يقضيه الله لكل قوم بما يصلحهم وما يناسبهم وهو الأعلم بهم، (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) -المائدة 48- وجاء القرآن خاتما للكتب والمناهج والشرائع للبشرية جمعاء صالحا لكل زمان ومكان.

ونعود للآية الكريمة، فقد أرسل الله في هؤلاء القوم رسولا منهم يعرفونه ويعرفهم، فهو من أوسطهم حسبا وشرفا، وجاءهم بالدعوة الواحدة الثابتة عبادة الله وحده وتوحيد الألوهية لتحقيق التقوى.

 

وإلى الآية 11 من سورة الشعراء: (قَوْمَ فِرْعَوْنَ ۚ أَلَا يَتَّقُونَ)

تأتي هذه الآية في إطار قصة موسى عليه السلام والتي جاءت في العديد من السور القرآنية لتعرض جوانبها المختلفة بما يناسب كل سورة وكل مرحلة من مراحل الدعوة، سواء موجزة أو مسهبة، وفي هذه السورة جاءت موضحة جانبا من جوانب الظلم الذي عانى منه بنو إسرائيل تحت حكم فرعون مصر في تلك الفترة الزمنية، وفي نفس الوقت توضح الغاية من إرسال موسى عليه السلام إلى قوم فرعون، إنه الظلم السياسي، إنه استعباد هذه الجماعة من الناس من طرف الحاكم الظالم المتأله وقومه الذين شاركوه في ظلمه فاستحقوا الوصف الذي جاء في هذه الآية وكأنه أصبح اسم عَلَمٍ عليهم، بحيث إذا أُطلِق عُرف أنهم هم، قوم فرعون (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) -الزخرف 54- وهكذا فإن هذه الآية مبينة للآية التي سبقتها 10 (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، أي لبيان من هم القوم الظالمون، فكلمة (قَوْمَ) هي بدل من (القَوْمَ) في الأية السابقة أو هي عطف بيان، و(فِرْعَوْنَ) مضاف إليه، هؤلاء هم من ستكون مهمتك مواجهتهم والتصدي لهذا الظلم السياسي الذي يمارسونه ضد بني إسرائيل والمستضعفين من أهل مصر، رغم أن الكثير منهم سكتوا عن الظلم أو شاركوا فيه، هي نفس المهمة التي جاء بها كل الرسل إلى أقوامهم، مع اختلاف الصفة البارزة من الظلم الذي فشا في كل قوم عند بعثة الرسول إليهم، والصور المعروضة في القرآن تفاوتت من الظلم السياسي إلى الاجتماعي إلى الاقتصادي، فكل من حاد عن المنهج الرباني منذ آدم وصولا إلى النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، هو ظالم لنفسه وظالم للآخرين بشتى أنواع وصور الظلم، ومن هنا يخيم على الناس ظلام الجاهلية إلى أن يبعث الله النور مع أنبيائه ليبدد الظلمات، ويُحيي به قلوبا ران عليها الشرك والكفر فيطهرها ويشرحها لتلقى الوحي الإلهي، والنور الرباني، والتشريعات المزيلة لكل أنواع الفساد والشرور الفاشية بين الناس، والله تبارك وتعالى في هذه السورة جعل التوجه الأول من موسى إلى قوم فرعون، وفي سور أخرى إلى فرعون مباشرة، وهذا من تنوع الأسلوب بما يتناسب مع سياق عرض القصص القرآني بعد هذه القصة، من قصة إبراهيم إلى نوح فعاد…فناسَب هنا أن يكون التوجيه إلى قوم فرعون، ثم يأتي هذا السؤال التعجبي من موقف قوم فرعون (أَلَا يَتَّقُونَ) ؟! من هو الأحق بالخشية والخوف أيها الناس، رب العالمين والذي سمعتم عنه الكثير سواء من بني إسرائيل وهم بينكم، يخدمونكم وترون أنهم يعبدون الله لا فرعون، أو من الأقوام السابقة لكم، أم هذا البشر الذي يدَّعي الألوهية ولا يملك من مقوماتها شيئا، فلا هو الخالق ولا هو  الرازق ولا المحيي ولا المميت، ثم وكأن الله أراد من هذا التوجيه أن يُحدث الهزة والاستعداد لتلقي الآيات التي سيأتي بها موسى عند مواجهته مع فرعون. ويقول المفسرون أن الله تبارك وتعالى قد بدأ القصص في هذه السورة بقصة فرعون ثم إبراهيم ثم جاء الترتيب الزمني من نوح إلى شعيب عليهم السلام، وذلك أن قريشا طلبوا من النبي (ص) أن يأتيهم بآيات مادية تؤيده في رسالته، فكان أن بدأ القصص بموسى عليه السلام، وهو أكثرالأنبياء تأييدا بالآيات فماذا كانت النتيجة؟ أصر فرعون على الكفر والاستكبار فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وفي هذا تسلية للنبي (ص) في مواجهته مع قومه، وإنذارٌ لقريش ومن لفَّ لفيفها على مر الزمن أن سنة الله في أخذ الظالمين باقية لا تتبدل ولا تتحول، فاتقوا الله وعودوا إليه وآمنوا برسله واتبعوا منهاجه الذي أنزله في كتابه يُجِركم من عذاب أليم.

 

وإلى الآية 106 من سورة الشعراء: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ)

تتعلق هذه الآية بالآية السابقة لها 105 (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) والتي بدأت الحديث عن قصة نوح عليه السلام مع قومه، وكما سبق الحديث في الآية 11 أعلاه عن الهدف من سرد هذا القصص على النبي (ص) لتثبيته وتسليته مما يصيبه من العنت من قومه الذين ما زالوا يصرون على الكفر وتعذيب المؤمنين وإيذائه بالقول والفعل قدر استطاعتهم، فقد بدأت الآية 105 بالنتيجة النهائية لفترة زمنية هي الأطول للرسل مع أقوامهم (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) -العنكبوت 14- : التكذيب للرسل، وقد جاءت كلمة الرسل جمعا مع أنه رسول واحد، لكون رسالة الرسل جميعا واحدة إلى أقوامهم، توحيد الألوهية والربوبية وعبادة الله وحده، فالذي يكذب واحدا كمن كذَّب الجميع، وقد كان التكذيب حين جاءهم نوح ليخرجهم من الظلمات إلى النور (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ) وتؤكد الآية هنا ما سبق ذكره في السور والآيات السابقة أنه منهم، وهم على علم تام بأحواله وصدقه وأمانته التي كان معروفا ومشهورا بها بينهم سنين طويلة، فكيف يكون أمينا بينهم ولا يكون أمينا مع الله على وحيه وما أنزله إليه؟! إنه أخوهم نسبا وقبيلة، وهذا في حد ذاته كان حريا بهم أن يصدقوه ويتبعوه، فالأخ ناصح لإخوته يحب الخير لهم  ويكره أن يصيبهم الشر، فقال لهم (أَلَا تَتَّقُونَ) ألا تخافون الله وعقابه أن يصيبكم، وهنا يحثهم على الإيمان بالله والإنابة إليه حتى يقيهم العذاب الذي حذرهم وما زال يحذرهم منه مرارا وتكرارا، وحتى يتحصلوا على الخير العميم والرزق الوفير إن آمنوا واستغفروا ربهم كما جاء في سورة نوح، ورغم ذلك أصروا على التكذيب والكفر والسخرية منه، فكان العذاب الذي لم يبق منهم أحدا، فكان الطوفان الذي أهلكهم، وكانت النجاة لنوح ومن آمن معه، وفي هذا من الإنذار لأهل مكة ما فيه، ومن التثبيت للنبي (ص) ما فيه.

ومع الآية 124 من سورة الشعراء: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ)

ويتواصل القصص القرآني عن مصارع الأقوام السابقة تثبيتا لقلب النبي (ص) ووعيدا للمشركين إن أبوا الاستجابة لنبيهم، وهذه الآية تتعلق بالآية السابقة لها 123 (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ)، أي أن قبيلة عاد كذبت رسولهم هود عليه السلام كما جاء تفصيلا في الحديث عن الآية 65 من سورة الأعراف أعلاه بما يغني عن الإعادة هنا، وهذا العرض القصصي يؤكد على السُنَّة الإلهية في أخذ الظالمين إن كذبوا رسلهم وأعرضوا عن الهداية التي يرسلها لهم، هي السنن التاريخية التي لا تتبدل ولا تتحول ولا تحابي أحدا، وكما نلاحظ هي دعوة الرسل الواحدة، كل إلى قومه بلسانهم يتحدث عنها القرآن الكريم بلسان نبي الرحمة، بلسان عربي مبين، ونجد نفس الإجابات والافتراءات من الأقوام على رسلهم كما قال تعالى (كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) -الذاريات 52- وتكون النهاية هلاك القوم الظالمين بعذاب من عند الله، ونجاة النبي والمؤمنين معه برحمته وفضله.

 

ومع الآية 142 من سورة الشعراء: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ)

كما كان الأمر مع قصة هود مع قومه تجيء قصة نبي الله صالح مع قومه ثمود، وهم من العرب الذين سكنوا ما هو معروف إلى اليوم بمدائن صالح بين الحجاز والشام، وقد روي أن الرسول (ص) قد مر بمساكنهم في غزوة تبوك. تأتي هذه الآية تتمة للآية التي سبقتها 141 (كَذَّبَتۡ ثَمُودُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ) هي نفس النهاية التي وصل إليها قوم صالح عليه السلام، التكذيب رغم الدعوة ورغم الترهيب والإنذار بمصائر الأمم السابقة لهم: عاد وقوم نوح، إلا إنهم استكبروا عن الحق الذي جاءهم به نبيهم الأمين، (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ) والذي عرفوه، فهومن أوسطهم نسبا، وعرفوا صفاته وأخلاقه وأمانته، فكيف يكذب على الله، كيف يخون الأمانة مع ربه وهو يحفظها لهم، ويحثهم على التقوى (أَلَا تَتَّقُونَ) متعجبا من صنيعهم وصدودهم عن مخافة الله، إنها الدعوة الواحدة والردود المتشابهة من الأقوام قرنا بعد قرن، والنهاية الواحدة في الدنيا: التدمير والهلاك للظالمين بالجنود الربانية التي لا يقف لها أحد من الخلق، لأنه العزيز الجبار المتكبر، وتكون النجاة والفلاح للنبي ومن آمن معه في الدنيا والآخرة.

 

ومع الآية 161 من سورة الشعراء: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ)

يتواصل القصص القرآني عن الأمم السابقة بنفس الأسلوب البياني بذكر تكذيب القوم لنبيهم، وهنا جاءت الآية 160 (كَذَّبَتۡ قَوۡمُ لُوطٍ ٱلۡمُرۡسَلِينَ) ولوط عليه السلام لم يكن من هؤلاء القوم نسبا، فهو ابن أخي خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، وكان ممن أنجاه الله مع إبراهيم، وجاء معه إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين، فبعثه الله إلى هؤلاء الذين كانوا يسكنون قرى سدوم في منطقة الأغوار المعروفة اليوم، فمكث فيهم ردحا من الزمن يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته وترك ما هم فيه من الفاحشة التي لم يسبقهم بها من أحد من العالمين، ولأنه عاش بينهم زمنا فقد جاز أن يسميه القرآن أخاهم، وهذا متداول في اللغة العربية وعليه العديد من الشواهد في كتب التفسير، وقد قال لهم ما قاله كل الأنبياء الذين سبقوه إلى أقوامهم (أَلَا تَتَّقُونَ)، ألا تخافون ربكم وقد علمتم ما حل بالأمم من قبلكم من العذاب الشديد والهلاك والتدمير لهم ولقراهم، بعد ما كانوا فيه من النعيم الذي أنعم الله به عليهم، فكفروا وجحدوا وعصوا رسل الله فكان الجزاء العادل لهم على ما كسبته أيديهم في حق الرسل والمؤمنين.

هذا كتاب الله ينطق بالحق من أمور الغيب مخبرا بها رسول الرحمة لينذر به الناس، كل الناس وأولهم قومه ومن جاورهم في حياته، وليواصل أصحابه وأتباعه من بعده هذه الرسالة للناس كافة إلى يوم الدين.

 

وإلى الآية 177 من سورة الشعراء: (إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ)

تتواصل الرحلة الرسالية في سورة الشعراء حتى وصلت النهاية مع قصة نبي الله شعيب عليه السلام والذي أرسله الله إلى أهل مدين، كما جاء في بعض المواضع، وإلى أصحاب الأيكة كما جاء في هذا الموضع، حيث ذكرت الآية 176 من هذه السورة تكذيب أصحاب الأيكة للمرسلين (كَذَّبَ أَصۡحَٰبُ لۡ‍َٔيۡكَةِ ٱلۡمُرۡسَلِينَ)، فهي نفس السنة من طرف أهل الكفر والشرك، فكل ما يفعلونه وما يقولونه يندرج تحت نفس العنوان العريض: التكذيب الفج والفاجر دون دليل أو برهان لكل الرسل الذين يرسلهم الله للأمم، وقد سبق الحديث عن مجموعة من الأمم  والرسل، والآن جاء دور شعيب عليه السلام، و قد جاء كل الرسل بالقاعدة الأساسية التوحيد: توحيد الألوهية والربوبية وما يستلزمهما من العبودية التامة لله، ثم يقوم كل رسول بمعالجة مشكلة فاشية في قومه المرسل إليهم، وهؤلاء القوم، أصحاب الأيكة ومَدْيَنُ اتصفوا بالمشكلة الاقتصادية: تطفيف الكيل والميزان وبخس الناس أشياءهم، وقد أسهب المفسرون فيهم، هل هم جماعة واحدة أو أكثر؟ هل كانت رسالة واحدة أم تكرر الإرسال مرة إلى هؤلاء ومرة إلى أولئك، والأرجح كما يقول ابن كثير أنهم أمة واحدة تسكن قرى متقاربة، عبدوا الأيكة وهي الشجر الملتف، وكان من شجر النبق المعروف بشجر الدَّوم، وكانوا يسكنون بين الحجاز وفلسطين قريبا من منطقة العقبة، ومن الملاحظ هنا أن القرآن لم يقل أخاهم بل قال: (إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) وكما يقول ابن كثير (وهو الأرجح) أن الصفة التي عرَّفهم القرآن بها (أَصۡحَٰبُ لۡ‍َٔيۡكَةِ) هي عبادتهم للأيكة، ولو قال أخاهم لكان ذلك مدعاة للظن أن شعيبا يشاركهم في ذلك، أما عندما ذكرهم كأهل مدين (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) -هود 11- قال أخاهم، لأنه ذكرهم بنسبتهم لمدينتهم أو لقبيلتهم، ثم يأتي خطاب شعيب لقومه (أَلَا تَتَّقُونَ) هو نفس الخطاب الذي قاله كل الرسل لأقوامهم، وهو ما يقوله النبي (ص) لقومه. ألا فاتقوا الله وأنيبوا إليه يغفر لكم ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم.

 

وإلى الآية الأخيرة في هذه المجموعة وإلى الآية 124 من سورة الصافا ت: (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ).

ينتقل الأسلوب القرآني في هذه السورة من البدء بتكذيب القوم لنبيهم (في سورة الشعراء) إلى التأكيد على كون النبي واحدا من المرسلين الذين أرسلهم الله في مهمة محددة إلى قومهم، ولكنهم لم يأتوا بشريعة جديدة بل كانوا على شريعة واحد من الرسل الذين سبقوهم، ولذا فقد جاءت الآية السابقة لها (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)، وهو أحد أنبياء بني إسرائيل ويقال أنه يسمى عندهم إيليا، وقد أرسله الله إليهم عندما تركوا عبادة الله وعبدوا أحد الأصنام وكانوا يدعونه (بعل) ويقول المفسرون أن ذلك كان في مدينة بعلبك المعروفة اليوم في لبنان، ومضمون رسالته هو الإيمان بالله الواحد والتقيد بشريعة موسى عليه السلام (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ)، فهو يحثهم على ترك ما هم فيه من عبادة الحجارة التي لا تضر ولا تنفع والإنابة إلى الله أحسن الخالقين، فهو الأحق بالخشية والرهبة، إنه من يجب أن يُتقَّى عذابه و يرجى ثوابه، فهو الخالق وهو العزيز الجبار وهو الغفور الرحيم.

وهكذا نلاحظ التنوع القرآني في عرض هذه القصص في هذه الآيات من البدء بإرسال الرسل إلى أقوامهم (سورتي الأعراف والمؤمنون) إلى البدء بتكذيب الأقوام لرسلهم في آية مستقلة تسبق الآية موضع البحث (سورة الشعراء) إلى التأكيد على أن النبي المقصود في الآية هو واحد من المرسلين (ولم يقل هنا الرسل) (سورة الصافات)، إنه الإعجاز القرآني المتميز الفريد حتى لا يمل السامع، ويكون في نفس الوقت متناسبا مع جو السورة وأسلوبها، وفي كل مرة يكون هناك إيجاز أو تفصيل في جانب من جوانب القصة لم يتم تداوله من قبل، فتكتمل الصورة الكلية لقصة هذا الرسول أو النبي أو ذاك، ويتحقق الهدف الكلي من سرد القصة من العبرة والعظة والتثبيت للرسول (ص) وللمؤمنين إلى يوم الدين، وإلى إبراز السنن التاريخية في صعود الأمم وفلاحها وبقائها أو أفول نجمها وهلاكها.

هذا هو كتاب الله وحبله المتين، فما لنا إلا أن نتدبره آناء الليل وأطراف النهار لعلنا نحقق التقوى في القلوب والفهم والفقه في العقول والصلاح في الأعمال، إنه سميع قريب مجيب.

الكاتب: الأستاذ محمود شاكر

 

Continue Reading
Advertisement
Comments

فيسبوك

Advertisement
أخبار تركيا اليوم9 ساعات ago

السوريون يتصدرون قائمة الحاصلين على لجوء بالاتحاد الأوروبي في 2023

الإقامة العقارية في تركيا 2023
أخبار تركيا اليوم12 ساعة ago

ضوابط جديدة لتجديد الإقامة السياحية في تركيا خلال فترة 6 أشهر فقط

أخر الأخبار13 ساعة ago

رئيس بلدية إسطنبول إمام أوغلو: نحن نعتبر حماس منظمة إرهابية

منوعات17 ساعة ago

فيديو ميار الببلاوي

وزير الداخلية التركي
اخبار تركيا بالعربي17 ساعة ago

وزير الداخلية التركي يعلن عن عملية أمنية شملت 6 ولايات بما فيها أضنة وغازي عنتاب

أخبار السوريين في تركيا17 ساعة ago

تركيا تدرس مشروع يهدف لتوظيف المهاجرين السوريين

سعر الدولار مقابل الليرة التركية ifc market
أخبار تركيا اليوم18 ساعة ago

هل هناك زيادة في الحد الأدنى للأجور في يوليو؟ وزير العمل التركي يجيب!

أخبار تركيا اليوم18 ساعة ago

قضية رشوى كبيرة تثير الجدل في تركيا

أخر الأخبار19 ساعة ago

تركيا… تفاصيل صادمة عن الهجوم الذي استشهد فيه اثنان من ضباط الشرطة في مركز الشرطة

عربي19 ساعة ago

هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!