مقالات وتقارير
الاستخبارات التركية تكشف أسرار جاسوسها الأشهر بعد 80 عاما
بعد أكثر من ثمانية عقود من السرية، كشفت الاستخبارات الوطنية التركية (MIT) عن تقرير استخباراتي يعود إلى عام 1940 ينسف الرواية التقليدية حول الجاسوس الشهير أحمد عزت تومروك، المعروف بلقب “كمال الإنجليزي”.
التقرير الرسمي الذي أُعد آنذاك بواسطة “خدمة الأمن الوطني” (الجهاز السابق للاستخبارات)، يصف الرجل الذي مُجِّد طويلاً كبطل من أبطال الظل بأنه مقامر، وسكير، وعديم الولاء، مؤكداً أن المعلومات التي قدمها كانت ضحلة ومضللة ولا تحمل أي قيمة استخباراتية حقيقية.
علاقات مشبوهة وافتقاد للمصداقية
الوثيقة، المؤرخة في 26 ديسمبر 1940، تكشف عن أن أحمد عزت تومروك كان تحت المتابعة الأمنية لسنوات، حيث اعتاد تقديم نفسه للمسؤولين الأتراك كـ”عنصر استخباراتي متعاون”.
- فشل الاختبار: التقييم الرسمي طعن في مصداقية تومروك، حيث أشار إلى أن الأجهزة المعنية حاولت توظيفه واختبرته فعلياً، لكنها أنهت العلاقة معه بقرار قاطع بعد أن تبين افتقاده للنزاهة واتسام سلوكه بـ”الازدواجية”.
- عروض مرفوضة: كشف التقرير أن تومروك وصديقته البريطانية دورثي برايت عرضا خدماتهما على جهاز الاستخبارات البريطاني، لكن العرض قوبل بالرفض القاطع وسط شكوك حول احتمال تبعيتهما لجهات أخرى.
- الاتصال بالألمان: بعد صد البريطانيين، اتجه تومروك لمحاولة فتح قنوات اتصال مع جهاز الاستخبارات الألماني خلال ذروة الحرب العالمية الثانية، طمعاً في الحصول على دور تجسسي جديد.
صورة قاتمة وشخصية غير منضبطة
لم يقتصر التقرير على تقييم تومروك المهني، بل امتد ليشمل ملامح من حياته الخاصة وعلاقاته، حيث وصفته الوثيقة بأنه “سكير ومقامر” وشخصية غير منضبطة لا يمكن الاتكال عليها.
وأكدت الاستخبارات في تقريرها أن ما قدمه تومروك من معلومات سابقاً كان يفتقر للموثوقية ويتسم بالتضليل، مما جعله خارج حسابات الأجهزة الأمنية كعنصر يمكن الاعتماد عليه.
ويأتي نشر هذا التقرير، الذي أُرفق بصورة فوتوغرافية للجاسوس آنذاك، ضمن سياسة انفتاح أرشيفي أوسع تهدف إلى إعادة قراءة الذاكرة الاستخباراتية للجمهورية التركية وكشف النقاب عن الملفات المنسية أو المحجوبة.

توقيت محسوب
يرى الخبير الأمني بلال يوزغاتلي أن رفع السرية عن تقرير يدين شخصية بحجم “كمال الإنجليزي” ليس إجراء أرشيفيا عاديا، بل يحمل دلالات إستراتيجية واضحة في مقدمتها سعي جهاز الاستخبارات التركي إلى إعادة تشكيل الذاكرة الأمنية للجمهورية، عبر تقديم قراءة واقعية تستند إلى الوثائق لا إلى الأساطير.
وأوضح للجزيرة نت أن توقيت الكشف ليس عشوائيا، بل يعكس رغبة المؤسسة في إعادة تقييم رموزها التاريخية بما يتماشى مع تحولاتها الداخلية والخارجية، ويبعث برسالة مفادها أن الجهاز بات أكثر شفافية وقدرة على مراجعة ذاته. ويعكس فتح الملف تحولا مؤسسيا نحو تفكيك الرموز القديمة وإعادة تصنيفها وفق معايير محدثة تستند إلى الوقائع، معتبرا أن نشر مثل هذه الوثائق يُستخدم أيضا كأداة تأثير ناعم ورسالة سياسية محسوبة التوقيت.
من هو كمال الإنجليزي؟
أحمد عزت تومروك الاسم الذي ارتبط لعقود بعالم الاستخبارات التركية كأحد أبرز وأغرب وجوهها في النصف الأول من القرن الـ20، بزغ نجمه خلال حرب الاستقلال التركية، حين تمكن من التسلل خلف خطوط “العدو اليوناني” مكلفا بمهمات سرية حساسة، بعد أن نال ثقة مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك.
تميز تومروك بصفات استثنائية جعلت منه مرشحا مثاليا لعالم الجاسوسية، كإتقان لافت للغات الأجنبية خصوصا الإنجليزية، ما مكنه من تقمص شخصية بريطاني بطريقة لا تثير الشك، وموهبة رياضية مكنته من التتويج كبطل ملاكمة، ما أكسبه لقبا إضافيا هو “بطل الملاكمة كمال”.
هذه السمات جعلته شخصية ميدانية قادرة على التنقل بين العوالم المعقدة للصراع الاستخباراتي بين القوى الدولية التي تنازعت النفوذ على تركيا في تلك الحقبة.
وبعد إعلان الجمهورية، تحول كمال الإنجليزي إلى أسطورة وطنية. احتفى به الإعلام والرواية الشعبية، وظهرت قصته في كتب وأفلام، أبرزها فيلم “كمال الإنجليزي يتحدى لورنس” (1952)، الذي نسج مواجهة سينمائية متخيلة بينه وبين الجاسوس البريطاني الشهير “لورنس العرب”، ليُقدم فيها تومروك كبطل قومي في مواجهة العملاء الأجانب. كما نال وسام الاستقلال تكريما لدوره في دعم الكفاح الوطني.
