Connect with us

مقالات وتقارير

يقول الله في القرآن «وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا» هل فيروس كورونا غضب من الله؟

Published

on

يقول كثير من الناس إنه لا داعي لإقحام الدين في تفسير الظواهر الطبيعية، وإنه يجب فهم هذه الظواهر ضمن القوانين المادية.

أتفق مع جزء من هذا القول وأختلف مع جزء آخر منه.. أتفق مع أننا نحتاج العقل الفاعل الذي يفكك الظواهر الطبيعية ويكتشف قوانينها ويبدع الحلول للمشكلات التي تواجهه في إطار هذه القوانين بعيداً عن الاتكال القدري والكسل المعرفي والعجز العملي، لكني أختلف مع الدعوة إلى تحييد الدين كليةً من فهم ظواهر الحياة، إذ إن هذه الدعوة تتناقض مع طبيعة الدين الذي يقدم رؤيةً شاملةً للحياة. فالقرآن يقدم إطاراً تفسيرياً للظواهر الكونية والمصائب الطبيعية والأحداث التاريخية، والقول إنه يجب عدم إقحام الدين هو تعطيل لفاعلية جزء حيوي من مساحة الدين.

المشكلة ليست في تقديم تفسير ديني للأحداث الطبيعية، فالمؤمن لا ينفصل عن مرجعيته الغيبية في تفاعله مع الحياة وفهم أحداثها، إنما المشكلة في خلق تناقض متوهم بين التفسير الديني والتفسير الطبيعي للأحداث. فالدين يوقظ بصائرنا تجاه البعد الروحي لهذه الحياة، ليس بقصد تعطيل البعد المادي، بل بقصد الإضافة والإثراء له وإعطاء المعنى الأخلاقي الغائي التوحيدي لأحداث الحياة المتفرقة.

بكلمات أخرى: فإن المؤمن لا يسعه إلا أن يؤمن بأن لله تعالى علماً وحكمةً وتدبيراً في كل صغيرة وكبيرة في هذا الكون، لكن فعل الله ليس منفصلاً عن قوانين الطبيعة، لأن الله تعالى لا يكلم البشر كفاحاً، إنما يكلمهم عبر السنن “القوانين” التي أودعها في ثنايا الوجود. فقوانين الطبيعة هي كلمات الله إلى عباده: “وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ”، وبهذه المقاربة فإننا نصل ما أمر الله به أن يوصل ونجسر القطيعة بين الدين والعلم.

إن كثيراً من الذين يرفضون تدخل الدين في تفسير ظواهر الطبيعة يلجأون إلى عقلنة الطبيعة لنسبة الأحداث إليها فيقولون مثلاً: “غضب الطبيعة، انتقام الطبيعة، عدالة الطبيعة…”. إذاً ما الذي يمنع أن يكون “الله” هو المعادل الموضوعي لكلمة “الطبيعة” مع إضافة معاني الحكمة والعلم والإحاطة والرحمة إليها؟ ما الذي سيبقى حينها من فرق جوهري بين النظرة المادية والنظرة الروحية للحياة؟

في الخامس من آذار/ مارس الجاري، نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية واسعة الانتشار مقالاً للصحفي الصيني ووفي يو، بعنوان: “هل فيروس الكورونا هو انتقام البنجول؟”.

كتب كاتب المقال أن هناك احتمالاً أن يكون فيروس كورونا الجديد قد انتقل إلى البشر عن طريق حيوان البنجول الذي يعتبر طعاماً شهياً في الصين، وأنه بالرغم من حظر الصين تجارة الحيوانات البرية إلا أن البنجول هو أكثر الثدييات التي يتم الاتجار بها في العالم، وهو ما أغضب الرئيس الصيني في بداية الشهر الحالي ودفعه لتوبيخ كبار المسؤولين، في إشارة منه إلى ضرورة توقف عادات أكل هذا الحيوان حفاظاً على الصحة العامة.

وفق تقرير صادر عن مجموعة مختصة بالدفاع عن الحياة البرية عام 2016، فقد تم صيد أكثر من مليون من البنجول خلال العقد الماضي، وإن هذا الحيوان على وشك الانقراض بسبب الإسراف في اصطياده وأكله ومخالفة القوانين الدولية التي تحظر ذلك.

يستشهد الكاتب الصيني بمقولات من الكتب الصينية القديمة التي حذرت من أكل الحيوانات البرية، مثل البنجول والثعابين والخنزير، ورغم ذلك فإنه منذ الحظر الذي فرضته الحكومة الصينية الشهر الماضي على الحيوانات البرية لا يزال الصينيون يسألون عبر مواقع التواصل الاجتماعي الصينية عن الحيوانات البرية التي يستطيعون أكلها!

يختم الكاتب الصيني مقالته في نيويورك تايمز بطرح سؤال: “هل نقل البنجول فيروس كورونا إلى البشر؟ هل “covid19” هو ثأر البنجول منا بسبب تهديدنا له بالانقراض؟

في ضوء هذه القصة التي يحضرها لنا صحفي صيني من عمق الحدث وتنشرها إحدى أكبر صحف العالم، وهي صحيفة ليست سلفية التوجه قطعاً، نقترب بعقلانية من مفاهيم دينية مثل النهي عن الإسراف: “وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين”، ومثل التوازن البيئي والعقوبة الطبيعية لمن يخل بهذا التوازن: “إنا كل شيء خلقناه بقدر”، “ألا تطغوا في الميزان”.

الميزان هو النظام المهيمن على أرجاء الوجود، ومن يطغى فيه يلاقي عقوبةً من جنس عمله. هناك من يسمي هذه العقوبة “انتقام الطبيعة”، أما المؤمنون فيرونها تجلياً ليد الله العاملة في الطبيعة.

قبل شهور قليلة اندلعت حرائق هائلة في أستراليا التهمت ملايين الأفدنة وأدت، وفق بعض التقديرات، إلى نفوق أكثر من مليار كائن حي من الحيوانات والطيور والحشرات، وقبل ذلك التهمت الحرائق أجزاءً كبيرةً من غابات الأمازون (رئة العالم) وحوض الكونغو في أفريقيا، ثاني أكبر رئة خضراء في العالم.

وقد فسر خبراء ازدياد هذه الحرائق بالتغير المناخي، حيث أدى ارتفاع درجات الحرارة إلى زيادة التبخر وجفاف التربة والمواد العضوية النباتية التي تصبح وقودا قابلًا للاشتعال. أما التغير المناخي فيرجع سببه إلى السلوك البشري في عصر الصناعة، في المئة والخمسين سنةً الأخيرة، والذي تمثل في الإسراف في استخراج الوقود الأحفوري مما أدى إلى إطلاق غازات تحبس الحرارة. وبالرغم من المخاطر المحدقة بالبيئة والمتمثلة في ازدياد الحرائق والمخاوف من انقراض 20 في المئة من أنواع الحياة البرية مع حلول عام 2050، إلا أن جشع رأس المال لا يزال متفوقاً على المسؤولية الأخلاقية، وهذا ما تجلى بإعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحاب بلاده من اتفاقية باريس للمناخ في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، إذ تدعو اتفاقية المناخ إلى مزيد من مسؤولية الدول تجاه البيئة، بينما الولايات المتحدة هي أكثر الدول المتسببة في انبعاث غازات الاحتباس الحراري.

هذا الاضطراب في النظام البيئي بسبب أفعال الإنسان هو الفساد في لغة القرآن: “ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون”.

هذه الآية تنطوي على ثلاث فوائد، الأولى هي المسؤولية الإنسانية في هذا الكوكب، إذ إن الكوارث البيئية هي النتيجة الطبيعية لإفساد الإنسان وثمة علاقة عضوية بين النتيجة والسبب، والفائدة الثانية هي عموم القانون، فالله تعالى ليس منحازاً قومياً إلى المسلمين أو اليهود أو الهندوس، بل إن هذه القوانين تتناول الناس كافةً ومن يعمل سوءً يجز به، وبذلك لا تصح انتقائية التفسير الديني ليوافق أهواءنا المذهبية والطائفية والقومية، إنما يجب فهمها في سياق إنساني موضوعي. فالإسراف والظلم والإفساد والكسل في العلم يعاقَب صاحبها أياً كانت شريعته: “ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب”. أما الفائدة الثالثة فهي أن المصائب التي تصيب البشر ليست انتقاميةً في اتجاه واحد، بل إن لها غايةً تأديبيةً تتمثل في دفع الناس إلى الرجوع إلى الطريق الصحيح، لذلك لا تعارض بين وقوع المصيبة وبين انكشافها بعد حين، فإنما هي تذكرة ونذر إلهية لقوم يعقلون.

وكما أن للحياة الطبيعية ميزاناً يعاقَب من يخرج عنه، فإن للعلاقات الإنسانية ذات الميزان أيضاً، وفي مثال كورونا يظهر أن بنية الخوف وانعدام الشفافية التي بني عليها النظام السياسي الصيني ساهمت بأثر سلبي في تفشي المرض وفقدان فرصة تطويقه في مهده، وفي هذا المعنى تقول الباحثة إليزابيث إيكونوم:

“إن الصين فقدت وقتاً ثميناً في معالجة الأزمة بسبب نظامها السياسي وتصميمها على إسكات الأصوات المستقلة”، وإنه “تحت حكم شي جين بينغ، أصبح المسؤولون المحليون أكثر خوفاً من الإقرار بأنّ الأمور لا تسير على ما يرام. وقد أعاق هذا أيضاً الاستجابة الفعالة”.

يمكن صياغة معادلة رياضية: التسلط السياسي والتحكم في المعلومات يقود إلى الخوف وإسكات الحقيقة وغياب الشفافية، فتتكاثر المشكلة في الخفاء قبل أن تنفجر في العلن ويكون الوقت قد فات لمحاصرتها.

هذا الذي حدث في الصين يشبه إلى حد كبير ما حدث في إيران التي لم تتعامل أيضاً بشفافية مع انتشار المرض منذ أيامه الأولى، واختلط التسلط بالجهل، وهو ما أدى إلى تحولها إلى واحدة من أكثر بؤر تفشي المرض وتصديره.

حين نقول إن الله يعاقب بالأمراض أو الحرائق أو الحرب والخوف أو الفقر والانهيار الاقتصادي، فإننا نقصد أن نقول إن الله يعاقب على الإفساد والإسراف والظلم والجهل، وهو جوهر ما يقوله الماديون من أن للإفساد والإسراف والظلم والجهل عقوبات طبيعيةً، غير أننا نربح البعد الإيماني وما يضيفه إلى الحياة المادية من طمأنينة وشعور بالمعنى والغاية، ويورثه من مسؤولية أخلاقية ورقابة ذاتية.

هذا لمن فقه الدين ووضع الإيمان في سياقه الصحيح، أما الذين يبنون تدينهم على الأمنيات والظنون والجهل والكسل الفكري فهم حجة على أنفسهم.

“وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا”.

المقال يعبر عن رأي صاحب . للكاتب : أحمد أبو رتيمة

فيسبوك

Advertisement